فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



البحث الثاني: قال بعضهم: الحرج، بكسر الراء الضيق، والحرج بالفتح جمع حرجة، وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية.
وحكى الواحدي في هذا الباب حكايتين: إحداهما: روى عن عبيد بن عمير عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال: هل هاهنا أحد من بني بكر.
قال رجل: نعم.
قال: ما الحرجة فيكم.
قال: الوادي الكثير الشجر المشتبك الذي لا طريق فيه.
فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر.
والثانية: روى الواحدي عن أبي الصلت الثقفي قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية، ثم قال: ائتوني برجل من كنانة جعلوه راعيًا فأتوا به، فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم.
قال: الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا يصل إليها راعية ولا وحشية.
فقال عمر: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير.
أما قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماء} ففيه بحثان:
البحث الأول: قرأ ابن كثير {يَصْعَدُ} ساكنة الصاد وقرأ أبو بكر عن عاصم {يصاعد} بالألف وتشديد الصاد بمعنى يتصاعد، والباقون {يَصْعَدُ} بتشديد الصاد والعين بغير ألف، أما قراءة ابن كثير {يَصْعَدُ} فهي من الصعود، والمعنى: أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف الصعود إلى السماء، فكما أن ذلك التكليف ثقيل على القلب، فكذلك الإيمان ثقيل على قلب الكافر وأما قراءة أبي بكر {يصاعد} فهو مثل يتصاعد.
وأما قراءة الباقين {يَصْعَدُ} فهي بمعنى يتصعد، فأدغمت التاء في الصاد ومعنى يتصعد يتكلف ما يثقل عليه.
البحث الثاني: في كيفية هذا التشبيه وجهان: الأول: كما أن الإنسان إذا كلف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه، وعظم وصعب عليه، وقويت نفرته عنه، فكذلك الكافر يثقل عليه الإيمان وتعظم نفرته عنه.
والثاني: أن يكون التقدير أن قلبه ينبو عن الإسلام ويتباعد عن قبول الإيمان، فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} يُغوِيه {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وهذا ردّ على القدرية.
ونظير هذه الآية من السُّنَّة قوله عليه السلام: «مَنْ يُرِد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين» أخرجه الصحيحان.
ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر وتنويره.
والدين العبادات؛ كما قال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19].
ودليل خطابه أن مَن لم يُرد الله به خيرًا ضيّق صدره، وأبعد فهمه فلم يفقهه. والله أعلم.
وروي أن عبد الله بن مسعود قال: يا رسول الله، وهل ينشرح الصدر؟ فقال: «نعم يدخل القلبَ نورٌ» فقال: وهل لذلك من علامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «التَّجَافِي عن دار الغُرورِ والإنابةُ إلى دار الخلود والاستعدادُ للموت قبل نزول الموت» وقرأ ابن كثير {ضَيْقًا} بالتخفيف؛ مثل هَيْن ولَيْن لغتان.
ونافع وأبو بكر {حَرِجًا} بالكسر، ومعناه الضيق.
كرر المعنى، وحسن ذلك لاختلاف اللفظ.
والباقون بالفتح.
جمع حرجة؛ وهو شدّة الضيق أيضًا، والحَرجَة الغَيْضَة؛ والجمع حَرَج وحَرَجات.
ومنه فلان يتحرَّج أي يضيِّق على نفسه في تركه هواه للمعاصي؛ قاله الهَرَوِيّ.
وقال ابن عباس: الحَرَج موضع الشجر الملتف؛ فكأنّ قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره.
ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى؛ ذكره مكيّ والثعلبِي وغيرهما.
وكل ضيّق حَرِجٌ وحَرَج.
قال الجوهَرِي: مكان حرِج وحَرَج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية.
وقرئ {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} و{حَرِجًا}.
وهو بمنزلة الوَحَد والوَحِد والفَرَد والفَرِد والدنَف والدّنِف؛ في معنًى واحد، وحكاه غيره عن الفراء.
وقد حَرِج صدره يَحْرَج حرجًا.
والحَرَج الإثم.
والحرج أيضًا: الناقة الضامرة.
ويقال: الطويلة على وجه الأرض؛ عن أبي زيد، فهو لفظ مشترك.
والحَرَج: خشب يُشدّ بعضه إلى بعض يُحمل فيه الموتى؛ عن الأصمعيّ.
وهو قول امرئ القيس:
فإمّا تَرَيْنِي في رِحالة جابرٍ ** على حَرَج كالقَرِّ تَخفقُ أكفانِي

وربما وضع فوق نعش النساء؛ قال عنترة يصف ظلِيمًا:
يتْبَعْن قُلَّةَ رأسِه وكأنّه ** حَرَج على نَعْش لهنّ مُخَيّم

وقال الزجاج: الحَرَج: أضيق الضِّيق.
فإذا قيل: فلان حَرَج الصدر، فالمعنى ذو حَرَج في صدره.
فإذا قيل: حَرِج فهو فاعل.
قال النحاس: حرِج اسم الفاعل، وحَرَج مصدر وصف به؛ كما يقال: رجل عَدْلٌ ورِضًا.
قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء} قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخفَّفًا، من الصعود وهو الطلوع.
شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثِقله عليه بمنزلة من تكلّف ما لا يُطيقه؛ كما أن صعود السماء لا يطاق.
وكذلك يصّاعد وأصله يَتَصاعد، أدغمت التاء في الصاد، وهي قراءة أبي بكر والنخَعِي؛ إلا أن فيه معنى فعِل شيء بعد شيء، وذلك أثقل على فاعله.
وقرأ الباقون بالتشديد من غير ألف، وهو كالذي قبله.
معناه يتكلف ما لا يطيق شيئًا بعد شيء؛ كقولك: يتَجرّع ويتفوّق.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ {كأنما يَتَصَعّد}.
قال النحاس: ومعنى هذه القراءة وقراءةِ من قرأ يصّعد ويصّاعد واحد.
والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدِر على ذلك؛ فكأنّه يستدعي ذلك.
وقيل: المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نَبْوًا عن الإسلام. اهـ.

.قال الخازن:

وقوله تعالى: {ومن يرد} أي الله: {أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا} يعني يجعل صدره ضيقًا حتى لا يدخله الإيمان، وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك.
وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية وعنده أعرابي من كنانة فقال له: ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
وأصل الحرج الضيق وهو مأخوذ من الحرجة وهي الأشجار الملتف بعضها على بعض حتى لا يصل إليه شيء.
وقرأ ابن عباس هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم.
قال: ما الحرجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه، فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر.
قال أهل المعاني: لما كان القلب محلًا للعلوم والاعتقادات وصف الله تعالى قلب من يريد هدايته بالإنشراح والانفساح ونوره فقبل ما أودعه من الإيمان بالله ورسوله ووصف قلب من يريد ضلالته بالضيق الذي هو خلاف الشرح والانفساح فدل ذلك على أن الله تعالى صير قلب الكافر بحيث لا يعي علمًا ولا استدلالًا على توحيد الله تعالى والإيمان به وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر.
وقوله تعالى: {كأنما يصعد في السماء} يعني أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك، وقيل: يجوز أن يكون المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء نبوًا عن الإسلام وتكبرًا، وقيل: ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى الماء وليس يقدر على ذلك، وقيل: هو من المشقة وصعوبة الأمر فيكون المعنى أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام فإنه يتكلف مشقة وصعوبة في ذلك كمن يتكلف إلى السماء وليس يقدر على ذلك. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي يخلق فيه الضلالة (لسوء اختياره)، وقيل: المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الإيمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا} بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد (يكون فيه للخير منفذ) وقرأ ابن كثير {ضَيّقًا} بالتخفيف، ونافع وأبو بكر عن عاصم {حَرَجًا} بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفًا بالمصدر للمبالغة وأصل معنى الحرج كما قال الراغب مجتمع الشي (وتُصوِّر منه ضيق ما بينهما)، ومنه قيل: للضيق حرج، وقال بعض المحققين: أصل معناه شدة الضيق فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها.
وأخرج ابن حميد وابن جرير وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ {حَرَجًا} بفتح الراء وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {حَرَجًا} بكسرها فقال عمر: أبغوني رجلًا من كنانة واجعلوه راعيًا وليكن مدلجيًا فأتوه به فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماء} استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا (يكاد) يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة، وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود، والامتناع في ذلك عادي.
وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوًا عن الحق وتباعدًا في الهرب منه، وأصل {يَصْعَدُ} يتصعد وقد قرئ به فادغمت التاء في الصاد.
وقرأ ابن كثير {يَصْعَدُ} وأبو بكر عن عاصم {يصاعد} وأصله أيضًا يتصاعد ففعل به ما تقدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى: {ومن يرد أن يضله} من يُرد دوام ضَلاله بالكفر، أو من يُرد أن يضلّه عن الاهتداء إلى الإسلام، فالمراد ضلال مستقبل، إمَّا بمعنى دَوام الضلال الماضي، وإمَّا بمعنى ضلال عن قبول الإسلام، وليس المراد أن يضلّه بكفره القديم، لأنّ ذلك قد مضى وتقرّر.
والضيِّقُ بتشديد الياء بوزن فَيْعِل مبالغة في وصف الشّيء بالضيّق، يقال ضاق ضِيقًا بكسر الضاد وضَيقًا بفتحها والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح؛ ويقال بتخفيف الياء بوزن فَعْل، وذلك مثل مَيِّت ومَيْت، وهما وإن اختلفت زنتهما، وكانت زنة فَيْعِل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فَعْل، فإنّ الاستعمال سوّى بينهما على الأصحّ.
والأظهر أنّ أصل ضيِّق: بالتخفيف وصف بالمصدر، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف.
وقرئ بهما في هذه الآية، فقرأها الجمهور: بتشديد الياء، وابن كثير: بتخفيفها.
وقد استعير الضيِّق لضدّ ما استعير له الشّرح فأريد به الّذي لا يستعدّ لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه، بحيث يكون مضطرب البال إذا عُرض عليه الإسلام، وهذا كقوله تعالى: {حصرت صدورهم} وتقدّم في سورة النّساء (90).
والحَرِج بكسر الراء صفة مشبّهة من قولهم: حَرِج الشّيء حرَجًا، من باب فرح، بمعنى ضاق ضيقًا شديدًا، فهو كقولهم: دَنِف، وقَمِن، وفَرِق، وحَذِر، وكذلك قرأه نافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، وأمّا الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة، فهو كقولهم: رجل دَنَف بفتح النّون وفَرَد بفتح الراء.
وإتْباع الضيِّق بالحرج: لتأكيد معنى الضيق، لأنّ في الحرج من معنى شدّة الضّيق ما ليس في ضيق.
والمعنى يجعل صدره غير متّسع لقبول الإسلام، بقرينة مقابلته بقوله: {يشرح صدره للإسلام}.
وزاد حالة المضلَّل عن الإسلام تبيينا بالتّمثيل، فقال: {كأنما يصعد في السماء}.
قرأه الجمهور: {يصّعَّد} بتشديد الصاد وتشديد العين على أنَّه يَتفعَّل من الصعود، أي بتكلّف الصعود، فقلبت تاء التفعّل صادًا لأنّ التاء شبيهة بحروف الإطباق، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلبًا مطّردًا ثمّ تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التّخفيف بالإدغام، فتدغم في أحد أحرف الإطباق، كما هنا، فإنَّه أريد تخفيف أحد الحروف الثّلاثة المتحرّكة المتوالية من (يَتصعّد)، فسُكنت التاء ثمّ أدغمت في الصّاد إدغام المقارب للتخفيف.
وقرأه ابن كثير: {يَصْعَد} بسكون الصّاد وفتح العين، مخفّفًا.
وقرأه أبو بكر، عن عاصم: {يصّاعد} بتشديد الصّاد بعدها ألف وأصله يتصاعد.
وجملة {كأنما يصعد} في موضع الحال من ضمير: {صدْرَه} أو من صَدره، مُثِّل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه، فيتأمل في دعوة الإسلام، بحال الصّاعد، فإنّ الصّاعد يضيق تنفّسه في الصّعود، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيَّلة، لأنّ الصّعود في السّماء غير واقع.
والسّماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف، ويجوز أن يكون السّماء أطلق على الجوّ الّذي يعلو الأرض.
قال أبو عليّ الفارسي: لا يكون السّماء المُظلةَ للأرض، ولكن كما قال سيبويه القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعدًا أراد أبو عليّ الاستظهار بكلام سيبويه على أنّ اسم السّماء يقال للفضاء الذّاهب في ارتفاع (وليست عبارة سيبويه تفسيرًا للآية).
وحرف {في} يجوز أن يكون بمعنى (إلى)، ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية: إمَّا بمعنى كأنّه بلغ السّماء وأخذ يصعد في منازلها، فتكون هيئة تخييلية، وإمّا على تأويل السّماء بمعنى الجوّ. اهـ.